فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (108):

قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم قال ناهيًا عن إجابتهم إلى ما أرادوا به من التلبيس إنتاجًاعن هذا الكلام الذي هو أمضى من السهام: {لا تقم فيه} أي مسجد الضرار {أبدًا} أي سواء تابوا أو لا، وأراد بعض المخلصين أن يأخذه أولًا، اي لابد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض.
ولما ذمه وذم أهله، مدح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، إما الذي بالمدينة الشريفة وإما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك.
وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجدًا إحسانًا وإيمانًا وجمعًا بين المؤمنين وإعدادًا لمن صادق الله ورسوله، ومدح أهله إرشادًا لكل من كان مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحًا لكل من المسجدين.
لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكدًا تعريفًا بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب: {لمسجد أُسس} أي وقع تأسيسه {على التقوى} أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة أيامه فيكون أوله مخالفًا لآخره، قال: {من أول يوم} أي من أيام تأسيسه، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من أهل الإخلاص أن يتخذه مصلى، فبين أنه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له {أحق أن تقوم فيه} أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال.
ولما مدحه مدح أهله بقوله: {فيه رجال} أي لهم كمال الرجولية {يحبون أن يتطهروا} أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة- بما أشار إليه الإظهار، فهم دائمًا في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب} أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعل أو للندب إلى الطهارة ولو على أدنى الوجوه المجزئة فقال: {المطهرين} أي قاطبة منهم ومن غيرهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}
قال المفسرون: إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، قالوا: يا رسول الله بنينا مسجدًا لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة.
فقال عليه السلام: إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه، فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية، فدعا بعض القوم وقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وخربوه، ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة.
وقال الحسن: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبدًا.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ} نهي له عليه السلام عن أن يقوم فيه.
قال ابن جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين.
ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي، وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنيًا على التقوى من أول يوم، وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى، كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
قلنا: التعليل وقع بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سببًا للمفاسد الأربعة المذكورة، ومسجد التقوى مشتملًا على الخيرات الكثيرة.
ومن الروافض من يقول: بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك.
وثبت أن عليًا ما كفر بالله طرفة عين، فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره.
وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة، فزال هذا السؤال.
واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو؟ قيل: إنه مسجد قباء، وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه، والأكثرون أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سعيد بن المسيب: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام، وذكر أن الرجلين اختلفا فيه، فقال أحدهما: مسجد الرسول، وقال آخر: قباء.
فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا.
وقال القاضي: لا يمنع دخولهما جميعًا تحت هذا الذكر لأن قوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} هو كقول القائل، لرجل صالح أحق أن تجالسه.
فلا يكون ذلك مقصورًا على واحد.
فإن قيل: لم قال أحق أن تقوم فيه، مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر؟
قلنا: المعنى أنه لو كان ذلك جائزًا لكان هذا أولى، للسبب المذكور.
ثم قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين: أحدهما: أنه بني على التقوى، وهو الذي تقدم تفسيره.
والثاني: إن فيه رجالًا يحبون أن يتطهروا، وفي تفسير هذه الطهارة قولان: الأول: المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي، وهذا القول متعين لوجوه: أولها: أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه.
والثاني: أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم.
وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي.
والثالث: أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، ولم تحصل نظافة الظاهر، كأن طهارة الباطن لها أثر، فكان طهارة الباطن أولى.
الرابع: روى صاحب الكشاف: أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: «أمؤمنون أنتم» فسكت القوم ثم أعادها.
فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم؛ فقال عليه السلام: «أترضون بالقضاء» قالوا نعم.
قال: «أتصبرون على البلاء» قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في الرخاء» قالوا: نعم، قال عليه السلام: «مؤمنون ورب الكعبة» ثم قال: «يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء» قالوا: نتبع الماء الحجر.
فقرأ النبي عليه السلام: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} الآية.
والقول الثاني: أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر.
وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار.
والقول الثالث: أنه محمول على كلا الأمرين، وفيه سؤال: وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية، ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب، واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معًا لا يجوز.
والجواب: أن لفظ النجس اسم للمستقذر، وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير، فإنه يزول السؤال. اهـ.

.قال ابن العربي:

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قَوْله تعالى: {أَبَدًا}:

ظَرْفُ زَمَانٍ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ: ظَرْفٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَظَرْفٌ مُبْهَمٌ عَلَى لُغَتِهِمْ، وَمُطْلَقٌ عَلَى لُغَتِنَا؛ كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ.
وَالْأَبَدُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَمُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ فِيهِ هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَهِيَ أَنَّ {أَبَدًا} وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُومَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِالنَّهْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ، لَا مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ لَكَفَى فِي الِانْكِفَافِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا قال: {أَبَدًا} فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَلَا فِي حِينٍ مِنْ الْأَحْيَانِ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَضَى بِهِ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً.

.المسألة الثَّانِيَةُ: قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}:

اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ.
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وَمَسْجِدُ قُبَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أُسِّسَ بِالْمَدِينَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَشْهَبُ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ: الْمَسْجِدُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذْ كَانَ يَقُومُ رَسُولُ اللَّهِ وَيَأْتِيهِ أُولَئِكَ مِنْ هُنَالِكَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا} هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَعَ مَالِكٌ بِاسْتِوَاءِ اللَّفْظَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ تَقُومُ فِيهِ.
وَقَالَ فِي هَذَا قَائِمًا؛ فَكَانَا وَاحِدًا، وَهَذِهِ نَزْعَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ وَقَالَ آخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا».
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَجَزَمَ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِمِثْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ:

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [قوله تعالى: {فِيهِ فِيهِ}]:

فَقَوْلُهُ: {فِيهِ فِيهِ} ضَمِيرَانِ يَرْجِعَانِ إلَى مُضْمَرٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ نِزَاعٍ، وَضَمِيرُ الظَّرْفِ الَّذِي يَقْتَضِي الرِّجَالَ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ فَذَلِكَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الرِّجَالِ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ ضَمِيرُ مَسْجِدِ قُبَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}.
قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قُبَاءَ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ؛ فَمَا تَصْنَعُونَ؟» فَقَالُوا: إنَّا نَغْسِلُ أَثَرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ.
قُلْنَا: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الطَّهَارَةِ الْمُثْنَى بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ، كَالتَّطَهُّرِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ وَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَشَبَهِهِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ مُبْتَدَأِ تَأْسِيسِهِ أَيْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ، وَلَا وُضِعَ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ مِنْهُ إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ التَّقْوَى.
وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَطَهَّرُونَ، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُمْلَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالنَّظَافَةِ، فَيَمْسَحُونَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْحِجَارَةِ تَنْظِيفًا لِأَعْضَائِهِمْ، وَيَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ تَمَامًا لِعِبَادَتِهِمْ، وَكَمَالًا لِطَاعَتِهِمْ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: [في ثناء الله تعالى من أحب الطهارة وآثر النظافة]:

هَذَا ثَنَاءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَحَبَّ الطَّهَارَةَ، وَآثَرَ النَّظَافَةَ، وَهِيَ مُرُوءَةٌ آدَمِيَّةٌ، وَوَظِيفَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ الْمَاءَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ الْحِجَارَةَ تَخْفِيفًا، وَالْمَاءَ تَطْهِيرًا، وَاللَّازِمُ فِي نَجَاسَةِ الْمَخْرَجِ التَّخْفِيفُ، وَفِي نَجَاسَةِ سَائِرِ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ التَّطْهِيرُ؛ وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ.
وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُسْتَجْمَرُ بِالْأَحْجَارِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ.
وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ فَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَقَالَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: يَجِبُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فِي حَالَتَيْ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ: ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: يَجِبُ فِي حَالَةِ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ؛ وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ قَوْله تعالى: {وَثِيَابَك فَطَهِّرْ}؛ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِطَهَارَةِ ثِيَابِهِ حَتَّى إنْ أَتَتْهُ الْعِبَادَةُ وَجَدْته عَلَى حَالَةٍ مُهَيَّأَةٍ لِأَدَائِهَا.
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الثِّيَابَ كِنَايَةٌ، وَذَلِكَ دَعْوَى لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى سُقُوطِ طَهَارَتِهَا بِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَغُسِلَ بِالْمَاءِ؛ فَإِنَّ الْحَجَرَ لَا يُزِيلُهُ.
قُلْنَا: هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَمَرَ بِهَا، وَعَفَا عَمَّا وَرَاءَهَا.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بُرْهَانُهُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَنَّ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.